شذا شرف الدين
السفير، ٢٢.٠٧.٢٠١٠
  لطالما تساءلت عن سر الحماسة للعبة الفوتبول. بعض رجال الدين حرّموها بحجة أنها تشغل العباد عن التعبد، وآخرون لأنها تصغِّر عقولهم. وهناك نكتة تُتداول عن أحد الأمراء الأثرياء الذي سأل عن سبب لهاث أحد الشبان في الملعب، فلمّا أجيب بأنه يركض ليستحوذ على الكرة، قال: إذاً، علام يركض الآخرون؟. والأمير الثريّ نفسه، عندما فهم أن اللاعبين يتنازعون على الكرة نفسها، طلب من معاونه أن يشتري لكل لاعب كرة تكون له وحده. أحياناً أفكر بأنه لا بد أن يكون للتنازع على الكرة معنى أشمل من اللعبة نفسها ومن التنافس بين فريق وفريق أو بلد وبلد. أحياناً أفكر بأن تلك الكرة رمز للكرة الأرضية ذاتها، وأن النزاع ليس سوى على هذه الأخيرة. تعجبني هذه الصورة فأفهم على هذا النحو تحمسي للمونديال وللمباراة الأوروبية. هكذا أفهم لماذا المباراة الآسيوية لا تهمني، أو أنني لا أحب الفوتبول كلعبة بحدّ ذاتها وأراها مضجرة وفعلاً مضيعة للوقت. لكن للمونديال وللمباراة الأوروبية متعة فعلية. هنا قد تتنازع ألمانيا مع فرنسا على "الكرة الأرضية" الأوروبية، أو البرازيل مع هولندا على "الكرة الأرضية" العالميّة. والممتع في ذلك أنه كل أربع سنوات يتبدّل المستحوذ على الأرض.  متعة أخرى في مشاهدة المونديال هي أن العالم كلّه ينظر إلى النقطة نفسها، أي إلى الكرة تلك، في الوقت نفسه، وقد يجلس مَن في سيبيريا أمام الشاشة ليتابع بالحماس ذاته الذي عند الجالس أمام المشهد إياه في جنوب أفريقيا. تعجبني فكرة أن العالم كلّه في تلك اللحظة ينظر إلى الحدث نفسه، وأنه متحمس للنزاع نفسه.  وأنا أحب الفريق الألماني، لا لشيء سوى لأني عشت هناك نصف عمري تقريباً، وهناك تعلّمت أشياء كثيرة أهمّها الاعتراف بأخطائي دون خجل، ليس من الأخطاء بل من الاعتراف. باسم أيضاً يشجع الفريق الألماني بشغف وأفهم السبب الذي جعل من باسم "ألمانياً": فأمه حملت به وولدته هناك، وهناك خطا أولى خطواته، وبلغة الألمان نطق أول كلمة في حياته. وأفهم أيضاً لماذا عليا ألمانية: فهي راهنت عليها بخمسين دولاراً، وإذا ما خسرت ألمانيا فسوف تخسر دولاراتها الخمسين... أما حماسة يوسف للفريق الألماني فتبقى لغزاً بالنسبة لي: فهو لم يعش هناك أبداً لكنه يشجع هذا الفريق كما لو كان أخوه مثلاً أو أعزّ أصدقائه قائد الفريق. ألأنهم يلعبون جيداً؟ لكن الإسبان جيدون أيضاً وكذلك الأوروغوايون والهولنديون والبرازيليون وغيرهم!...  حتماً لا أعرف السبب الذي يدفع لبنانيين كثيرين الى تشجيع الفريق الألماني. لكن ذلك لم يزعجني، بل على العكس: فقد أفرحني كثيراً أن شعبية الفريق الذي أحب كبيرة في بلدي الأصلي. هكذا إلى أن رأيت صورة في إحدى الصحف يبدو فيها العلم النازي طالعاً من سيارة أحد أو إحدى "الفانز" لفريق ألمانيا. حين رأيت العلم جفلت وأحسست كأن من رفعه صفعني على وجهي. هذا ما شعرت به وخجلت كل الخجل وتمنيت ألا يرى ما رأيت أحد أصدقائي الألمان الذين يحبون لبنان، بل أيضاً الذين لا يعني لبنان لهم شيئاً. خجلت وغضبت وكدت أقول لحازم باكية: "لماذا يفعلون هذا لنا"، حين انتبهت بأن كلمة "لنا" لم تكن في محلها تماماً. فصحيح أنني ألمانية الجنسية لكن الـ"لنا" بدت مبالغاً فيها بعض الشيء، فلم أقلها، لكنني شعرت فعلاً بصفعة: مهما فعلتم أنتم الألمان، فسوف تظلون نازيين في نظرنا. ثم فهمت بأن حاملي الأعلام معجبون بالنازيين لأنهم قتلوا يهود بلادهم.  يقال إنه الجهل ما يدفع أولئك الناس إلى تصرفات كتلك. وهل من أحد يجهل ما فعله النازيون؟ لكن حسب ما فهمت لاحقاً، هم يعرفون تماماً ما فعله النازيون وقد يظنون بأن حملهم للشعار النازي هو انتقام للفلسطينيين. لكنْ ما هذا التناقض بين حبهم للفريق الألماني وتعبيرهم عن ذلك بأدوات تذل الأماني؟ ليس فقط حاملو الأعلام بل حتى ذاك السياسي اللبناني الذي قال على التلفزيون بأنه رغم تشجيعه البرازيليين بسبب لعبهم الجميل، فهو يشجع ألمانيا سياسياً لأن "الألمان قتلوا اليهود، أحرقوهم في الغاز". وذاك السياسي لا يعرف أن تصريحه المشين لا يخاطب، إذا خاطب، سوى حفنة من "النازيين الجدد" في ألمانيا الذين هم فعلاً حثالة الحثالة هناك.  السفارة الألمانية احتجت على هذه الأعمال إلى وزارة الخارجية اللبنانية. لكن باستثناء بعض الصحافيين، لم ينتقد أي من سياسيينا أو الفاعلين في الشأن العام، تلك التصرفات والتصريحات. فكأن سياسيينا لا يعنيهم الأمر أو كأنهم هم أيضاً لا يعرفون هول تأثير تلك الأفعال والتصريحات على الشعب الألماني. كان بإمكان أحد السياسيين الإعتذار أمام الشعب الألماني والحكومة الألمانية على ما بدر من لبنانيين، وذلك مراعاة للعلاقة الديبلوماسية اللبنانية - الألمانية على الأقل، أو مراعاة للبنانيين الذين يعيشون في ألمانيا ويستفيدون من الفرص التي تتيحها لهم.  فلألمانيا تاريخ لا يُحسد عليه الألمان حتماً. لكنهم، في المقابل، أصحاب مراجعة لتاريخهم يُحسدون عليها بالتأكيد. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهم يحاولون غسل صورتهم من عار النازية، بأفعالهم وأقوالهم وبكل ما لديهم من قدرات إنسانية وفكرية ومالية. وهم يقولون بألف طريقة ولسان: إننا نعتذر عن ماضينا المشين ونخجل به.  وها هي حفنة من اللبنانيين يظنون بأنهم يسدون خدمة للفريق الألماني برفع الشعار النازي تشجيعاً له. أحسب أن كل فرد من أفراد الفريق الألماني، أكان ألماني الأصل أم مهاجراً، يتمنى خسارة فريقه إن كان ثمن فوزه هو أن تخرج تصريحات كتصريح ذاك السياسي اللبناني وأمثاله، أو أن يُرفع العلم النازي في شوارع مدينة متوسطية ولو أنها بعيدة وهامشية نسبياً.  إنه فعلاً لمن العار أن يردّد لبنانيون، بافتخار أبله، "هايل هتلر". وهؤلاء لو عاصروا هتلر وكانوا يعيشون يومذاك في ألمانيا، لأحرقهم مثلما أحرق اليهود!  http://assafir.com/Article/206856/Archive