أن نقنع أنفسنا بأن موت مفكرينا قتلاً، هو قدر لا مفرّّ منه
شذا شرف الدين
النهار، ١٤ حزيران ٢٠٠٥
نُشر في الأيام الأخيرة عدداً لا يحصى من المقالات عن مقتل سمير قصير، لم أقرأ سوى القليل منها، إلا أن مقالة عدنان حب الله بعنوان "قــراءة فــي الإرهــاب الـنـفـســي" (جريدة النهار2005 -06-13) لفتت نظري بشكل خاص، إذ أنني لم أكن أتوقع من عالم نفس، أن يصف سمير قصير، أيضاً، "بالشهيد" و"ضحية الحرية" وإلى ما هنالك من كلمات تذكر بعهود غابرة. لست في صدد تحليل نفسي أو سياسي عن الأسباب التي وراء قتل سمير قصير، إلا أن ما جاء في المقالة، بأن المخاطرة بأرواحنا هي "قمة البطولة الفكرية"، يحتوي على قدرية fatalisme)) ثقيلة الوطأة، وعلى تمجيد "للفكر" ولمفهوم البطولة يصعب تبريره. كما أن العبارة جاءت في النص على غرار ما نقع عليه في خطابات قادة الأحزاب أو الفرق دينية وما شابه من ممثلين إيدييولوجين آخرين. وما أذهلني هو أن يأتي بها عالم نفس يعي تماماً استخدام الكلمات. كما أن هذه الفكرة المجمِّلة لواقع الأشياء المريب، تشي بنوع من القنوع الضمني بالجرائم التي ارتُكبت في حق مفكرين وسياسيين عرب وغير عرب.
جاء في المقالة:... فرغم شعور)سمير قصير) بالخطر الدائم والتهديد وسيف ديموكليس يلاحقه باستمرار، فإنه بقي على عهده لم يطاول الخوف منه مكانا بل زاده تصميما، ورفع سقف كلمته إلى أقسى حد ليقول حقيقة ما يفكر به غير آبه بالخطر الذي يتهدده، وهذا في نظري قمة البطولة الفكرية. أشك فعلاً بأن سمير قصير لم يكن آبهاً بالخطر. وأنا متأكدة من أنه لن يوافق الرأي بأن "البطولة الفكرية" هي في رمي النفس "تحت سيف ديموكليس" أو المخاطرة في الحياة، وذلك استنادا إلى أرائه النقدية فيما يخص العمليات الانتحارية على سبيل المثال. ثم أنني أشك بأنه أراد أن "يضحي بنفسه" وبأنه كان ليسعد بلقبه الجديد "الشهيد" (... استشهاد سمير قصير) "البطل" أو كان ليشعر بالفخر به. أكره البطولة وأكره مفهوم الشهادة وكلمة القتيل هي الأدقّ على أية حال. وإذا كان سبب قتل سمير قصير هو شجاعته، فتصبح الخسارة أفظع، لأنه ذلك يعني ضمنياً بأن جميع الصحافيين والمفكرين الذين لم تفخخ سياراتهم بعبوة ناسفة بعد، هم مفكرون جبناء. أفضلهم جبناء، رغم أنني لا أظنهم كذلك. إن البطولة في الميتولوجيا، هي عادة في مواجهة تنيناً ما والانتصار عليه. أما عندنا فالبطل في أغلب الأحيان، هو الذي يروح ضحية هذا التنين. ولأن فصائل التنين في منطقتنا من النوع الذي يصعب قهره، فأقنعنا أنفسنا بأن لا حلّ سوى أن نضحي بأرواحنا. وبتنا نؤله الشهادة بقدر ما يؤمن القتلة بالقتل كوسيلة لتحقيق أهدافهم. وهذه تراجيديا أخرى. إن"البطولة الفكرية" كما وُصِفت في مقال حب الله لا تنفع أحداً، ولا يأبه لها قاتلو مفكّرينا بأي حال. وإذا لم نكن نتكلم مع قاتليه، فمع مَن ولمن نقول هذه الكلمات. سمير قصير، سيبقى حتما في الذاكرة، وسيذكره التاريخ بعد مئة سنة، عندما نكون قد لحقنا به في عالم السموات. هذه الجملة المفترض أن تكون معزية، لا تُعزي للأسف، فإنني شخصيا كنت أفضل أن لا "أحفظه في الذاكرة"، وأن أقرأه حياً بدلاً من "شهيد" بطولة. أية بطولة كانت. 
قد يصفه البعض بالتهور وبالجرأة اللامتناهية، ولكن من يعرف سيرة الأبطال لا يعجب أن يتقدم البطل صفوف المقاتلين لأنه لو بقي في المؤخرة لما استحق صفة الشجاع المغوار الذي يتحدى المخاطر ولا يخاف الموت. لا أظن بأن سمير قصير كان سيختار الموت بدلاً عن حرية الرأي، أو أنه اعتبر نفسه "شجاعاً مغوارا". المسألة هنا ليست في تحدّي المخاطر أو في عدم خشية الموت. ليس مِن هرقولس سوى في الميتولوجيا. كذلك لن أصفه بالمتهور كونه قال ما فكر به، بل أفترض بأنه أراد فقط أن يكون راضياً عن نفسه ولذلك قال ما قال. وأن تسعى للرضا عن ذاتك، ليس في ذلك بطولة.
لست على علم بتفاصيل الاغتيال وخلفياته، لكنني أتساءل لماذا سمير قصير بالذات؟ وإذا كان اغتياله فقط رسالة إلى الأحياء كما جاء في المقالة، فلماذا اختاروه هو من دون غيره من الصحافيين الذين كتبوا وانتقدوا ما انتقده قصير، وكان الوصول إليهم أسهل من الوصول إليه. أين المنطق في أن يكون قتْله رسالة إلى الأحياء، إلا إذا كان وراء هذا القتل، منطق حقد فحسب. أخشى بأن اختيارهم له هو بالذات، لم يكن فقط بهدف القضاء على الصحافي والمحلل السياسي، إنما أولاً وخصوصاً على الإنسان سمير قصير، ذلك لأن بشاعتهم لا تحتمل هذا الكم من الإيجابيات مجتمعة في شخص واحد. أحسب بأنهم قتلوه لكي يتخلصوا من حسدهم منه ليس إلاّ. هذه الفكرة، رغم عبثيتها، تبدو لي الأكثر منطقية، لبلاد يبدو أن كلّ شيء فيها خالٍ من المعنى، ومُستباح ولا قيمة له.
وهكذا كان قدر سمير قصير أن يذهب ضحية قلمه وفكره على علم ومعرفة منه. لأنه يعرف أنه ضحى بنفسه... هذه الجملة الأخيرة "لأنه يعرف أنه ضحى بنفسه" ذكرتني بالمسيح الذي، وبالرغم من علمه المسبق بوشاية يهوذا به، قال له حين اقترب يهوذا منه ليقبّله: افعل ما جئت من أجله يا صديقي.. وهنا مبالغة في تقديس الصحافيين والمفكرين. ثم أن هناك مشكلة تكمن باعتبار الموت قتلاً على انه "قدر" هذا الرجل الجميل. لا نعرف ما هي أقدار الأشخاص. وإذا كان فعلاً قدر سمير قصير أن يموت قتلاً، فلماذا نقول ما نقوله ولماذا نحوّل اغتياله إلى قضية. لو كان ذلك صحيحاً، لو كان هنالك ثمة إله يقرر لنا أقدارنا فلماذا نُتعب أنفسنا، إذ ليس بمقدور أحد الهرب من قدره. فلنقل إذاً إنه قدره وانتهى الأمر. أن نؤمن بالقدر في هذا السياق (الاغتيال)، فتلك مأساة في حدّ ذاتها.
...ضحى بنفسه...لأن الحرية تتطلب ذلك. فلا تُكتسب الحرية وتكون أهلا لأصحابها إلا إذا دفع ثمنها دماً. لأن الحرية ليست هبة من قبل الطاغية ولا منحة، إنما حق ينتزع من أيدي الأشخاص الذين استلبوها وسخروها لمصالحهم الآنية. هنا فكرة "ميتولوجية" أخرى: الحرية لا تُكتسب إلا إذا دفعنا ثمنها دماً. هذا كلام إذا تتبعنا نتائجه بجدية يعني أنه علينا الآن، كوننا ، كما هو معلوم، لسنا أحراراً تماماً، أن نُقتل كي نعتبر أنفسنا أحرارا، وذلك في السماء حتماً. لماذا كل هذا الُُحب للخرافات. إن اكتساب الحرية الفكرية ليست بحاجة إلى ضحايا كي تُحقَّق، بقدر ما هي بحاجة إلى العمل على إقامة نظام قائم على هذا الأساس. لكننا طالما نحن نحّب تلك المصطلحات المدوية والألقاب "النبيلة" التي تسئم القلب أكثر من أي شيء آخر، فلن يتغير شيءً. إذ أننا نحن والتنين من صلب واحد. وإذا كان التنين جامد وغبي، لا يعرف التحول، ففي حبنا المفرط لتلك الألقاب، تكمن قوة عمياء أدت إلى تفجير عبوات كثيرة. قليل من البرودة، قد تقي من التعفّن.
...وبهذه المناسبة الأليمة  قد يكون غاب سمير قصير كما غاب غيره، لكن أرواحهم ستبقى تائهة تلاحق في أي مكان القتلة، ولكن ليس لقتلهم كما فعلوا، انما لاعادتهم الى إنسانيتهم وإنقاذهم من التدحرج في جحيم العدمية تائهين في سماء اللامعنى لوجودهم. هذه الفكرة المسيحية في العمق، جميلة وشاعرية أيضاً ولكن أولاً، لا أظنها مُجدية وثانياً، لن تجد مَن يحققها، إذ أن قتََلة سمير قصير، ببساطة لا يُسامَحون.
نحن لا نعرف أبعاد الكلمة، لأن اللغة هي في آن واحد محتوٍ ومحتوى لذاتنا- فمن دون  اللغة نتحول إلى كتلة من اللحم والعظم لا قيمة لها سوى التحلل. كذلك مع اللغة قد يحدث هذا التحوّل.
لا أدري كيف أنعي سمير قصير لكنني لن أسميه شهيدا، فإن تلك العبارة قد استبيحت وابتُذلت في كثير من الحالات، إضافة إلى أنه في دلالتها الميتافيزيقية ما يبعدنا عن إمكانية فهم الأمور بطريقة بناءة. أرفض تسمية سمير قصير بالشهيد أيضاً كي لا يكون رحيل الرجل المبكر جداً عن الحياة، قد حصل من أجل لاشيء.
http://www.annahar.com/archive/1013083-حول-مقالة-المحلل-النفسي-عدنان-حب-اللههل-ل-نقنع-أنفسنا-بأن-موت-مفكرينا-قتلاهو-قدر