القصة الكاملة لـ "ج. و. ب." باختصار شديد
شذا شرف الدين

منذ أن طلّ وجهي الجميل على الدنيا، قررّ أبي أنني سوف أكون إنساناً خارقاً والأول في كل شيء. فمنذ عمر اللفافة التي حصروني فيها وكانت قدرتي على تحريك نفسي لا تتجاوز عينيّ، كنت أراقب بإعجاب شفتيه المزمومتين وهو يقول: هكذا أفضل له... هكذا يتعلّم السيطرة على نزواته منذ الصغر! ولاحقاً حين كان يسيل لعابي، كما يحصل لجميع الأطفال حين تنمو أسنانهم، صار يقول لي إن عليّ أن أحرص على بلع اللعاب وألاّ ألحس كلّ ما تقع عليه يداي، ففعلٌ كهذا لا يليق بابن عائلة أبي. وحين بتّ أحبو على الأربعة جعل ببساطة يمنعني من ذلك خوفاً من أن أدخل تحت طاولة وأضرب رأسي، وفيما أنا أحاول الخروج من هناك يختلّ شيء فيه. وعندما بدأت تعلّم المشي، وكان لا بدّ أن أقع عدة مرات قبل التحكّم بقدميّ الصغيرتين، أمسى ينظر إليّ نظرة تطرحني أرضاً وأروح أبكي فيأتي هو ليحملني ويهدهدني مغلقاً فمي بموزة ألتهمها بسرعة قبل أن يغيّر رأيه ويسلبها منّي. 

وما أن بدأت أحرّك أطرافي بتوازن نسبيّ، حتّى شرع يطالبني بأشياءٍ يعسر عليّ انجازها في أغلب الأحيان. كنت أئنّ في داخلي مرّتين: مرّة لأنّي لا أستطيع أن أركض أسرع من ابن عمّتي جورجيو، ومرّة لأنّي كنت متأكّداً من أنّي سوف أؤلم أبي إذا ما فعلت. تمرّنت على الركض يوميّاً، طلبت من أخي الأصغر مساعدتي في حلّ المسائل الرياضيّة - التي كانت لأستاذي الدليل القاطع على عجزي الأبديّ عن فهم العلاقات القائمة بين الأشياء - واستيعاب قواعد اللغة - التي لا شك بأنها وُضعت على هذا النحو لتكون تمريناً مجرّداً للتلاميذ كي يتحمّلوا ثقل الوجود، وحفظت في رأسي، بالرغم من عدم اقتناعي بالأسباب، أفكار أناس لا أعرفهم وأحداث بلادٍ لا تعنيني وأسماء أماكن لن أراها، كما عملت جاهداً على إتقان دروسي ظهراً عن قلب. ودائماً جهدت لتفادي الأخطاء الإملائيّة التي كانت تفضحني كلّما طلبت منّي أمّي كتابة لائحة الأغراض لسائقنا الذي عُني بشرائها، وعانيت كي يكون خطّي جميلاً، علماً بأنّي كنت متأكداً من أنه لن يكون أبداً في جمال خطّ أبّي، فأبي هو صاحب أجمل خط في البلاد.
طفولتي كلها مرّت على هذا النحو. لم أسبق جورجيو مرّةً، ولا رضي أبي عنّي يوماً رغم أني فعلت كلّ ما في وسعي لإرضائه، إلى أن قطع الأمل بي نهائيّاً.
لكنّي لم أملّ المحاولة. فعندما كبرت قليلاً قرأت كتباً كونيّة كي أستطيع مشاركته النقاش، مع أنّي لم أكن مهتمّاً أبداً بتلك المواضيع، وفي أغلب الأحيان لم أفهمها- على الأرجح. ودخلت نادياً للعب الغولف رغم أنّي كنت أفضّل لعب الرغبي، وصادقت أبناء معارف أبي وبناتهم، مع أنّي فضّلت صحبة توني، ابن السائق.
في فصل ربيع ما، وكنتُ أصبحت في الحادية عشرة، شاء أبي أن أرافقه وصديقين له في رحلة لصيد العصافير. لم تنطلق من بندقيته رصاصة واحدة إلاّ أصابت. كان أوّلاً يراقب اتّجاهات الهواء التي تطير فيها العصافير، ثم يصغي بهدوء مترصّداً لحظة تحليقها. يحضّر البندقية مصوّباً إيّاها في الاتّجاه المطلوب. يدور مع التفافات العصفور متقمّصاً روح قطّة. يصوّب على الهدف... وبوم!! هكذا... دون عناء يُذكر، كان يُسقط طائراً من السماء...
كم كانت ساحرة مشاهدته وهو يُطلق النار. لا أحد من أصدقائه يجيد الصيد مثله. أنا متأكّد.
بعد أن شرح لي بعض التعليمات، أعطاني البندقيّة التي أخذتها مخفياً تردّدي، ورحت أحاول تقليد حركاته بالدوران مع اتّجاه تحليق العصفور، مركّزاً يدي اليُمنى على الزناد بينما تتحمّل اليُسرى ثقل الآلة. وترقبّتُ بتركيز بالغ ونظرة ثاقبة كنت أنقّلها بين الميزان على طرف البندقية الأقصى والطائر المحلِّق. ثم، وفي لحظة لم أكن أتوقّعها، أمرني صارخاً: أطلق! وبدلاً من أن يهوى العصفور على الأرض، هويت أنا نتيجة ضغط الطلقة الارتداديّ. كم خجلت وكم كان خجلي مؤلماً، ليس من أصحابه بل منه هو، رغم أنّه لم يعلّق على سقوطي المُذلّ سوى بقهقهته المعتادة وبقوله لأصدقائه مداعباً شعر رأسي: وكيف يُنزل عصفوراً ووزنه لا يزيد إلاّ قليلاً وزن العصفور! قررت من بعدها أن آكل أكثر. لكن هذا القرار أدى بسرعة إلى نقلي للمستشفى لأنّي التهمتُ في اليوم التالي كلّ ما وجدته في البرّاد (شمل ذلك قناني كاتشاب وبيرة، وبيضاً نيئاً وأقراص خميرة). لم أُعد الكرة ثانية وقنعت بهزالي، وانتهى الأمر. 

وفي يوم شتائيّ، صنعتُ لأبي، بمساعدة جارنا النجّار ستيف، طاولة للعب الورق، فهو كان يحب أن يلعب الورق مع أصدقائه من حين إلى آخر، وفكرتُ أن تكون هديّتي له لعيد الميلاد القريب. وبما أنهم كانوا دائماً أربعة لاعبين، جعلتُ الطاولة المربّعة من خشب البرتقال (وكان ستيف نصحني بعدم استعمال هذا الخشب لذاك الهدف لكنّي تمسّكت برأيي كوني أحببت لونه). حففتُ واجهتها وسوّيتُ زواياها وأرجلها جيداً بواسطة "الصاروخ" أوّلاً، ثم بورق الزجاج. نحتّها ونعّمتها لساعات إلى أن أزلت منها كل نثرة واعوجاج بحيث غدا ملمسها كملمس السندس. ثم مرحتها بدهن الشمع الأصليّ وعملتُ على تلميعها حتى انكشف عنها اللون الباهت المخبّأ في خشب البرتقال جاعلاً رائحة زكية تفوح منها وتجتذب أنفك من على بعد أمتار. 
في ذلك المساء جئت بها إلى البيت حاملاً إياها بساعدَيّ مما برّز عضلاتي التي جعلتها تنتفخ باجتهادي في ضربي المبرّح لطابات الغولف. كنت متأكدا من أن الطاولة ستعجبه وأنه سوف يعبر لي عن ذلك. كان أبي جالساً، كعادته عندما يعود مساءً مرهقاً من مكتبه، أمام شاشة التلفزيون مع كأس ويسكي في يده، مادّاً رجليه على مقعد صغير صُنع خصيصاً لتلك الوظيفة. نظر إليّ بعد أن شرحتُ له فكرة الهدية ونوعية الخشب إلى ما هنالك، قائلاً: هيدي آخرتك... بدّك تطلع نجّار؟ 
وما عيب النجّار، يسوع الربّ كان أيضاً نجّاراً، وأنا أحبّ النجارة والخشب أكثر من أيّ شيء. أحبّ استقامته، أحبّ صلابته، أحبّ طراوته، أحبّ حرارته الفاترة أبداً. يعجبني حفّه، يعجبني قشره، يعجبني نشره، يعجبني نحته، يعجبني دهنه، يعجبني شمّه، وحتى أكله، علكه وبلعه يعجبني...
تمنيت لو أستطيع البوح له بذلك لكنّي لم أنبس بكلمة، رغم أن نبض عضلاتي التي لم يعرها رمقة نظر، كان يدقّ عندها بقوّة.

في سن الثانية والعشرين، حين دخلت الجامعة لدرس التاريخ، عملاً برغبة أبي، لم أعد أرى عائلتي كثيراً. كانت لي غرفة في الجامعة تشاركتها مع زميل من قسم إدارة الأعمال اسمه مايك. وبتّ أزورهم من وقت لآخر عند نهاية الأسبوع. كان أبي يسأل دائماً عن دروسي وما إذا كنت من التلاميذ البارزين. ودائماً كنت أقول إن التاريخ مادّة مشوّقة فعلاً وليست على تلك الصعوبة التي تخيّلتها. كان يربّت على كتفي قائلاً: "حسناً، حسناً، سوف نرى لاحقاً إن فهمت شيئاً منها!".

أنهيت دراسة إدارة الأعمال- بعد استيعابي عدم جدوى ممارسة مهنة التاريخ، أقنعني مايك بدراسة البيزنس-، ونجحت في الإمتحانات الأخيرة وحصلت بسرعة على وظيفة "نائب مدير" في مكتب إحدى الشركات التابعة لأحد أصدقاء أبي. وكان الوالد قد بدأ باستثمار علاقاته قبل أشهر من حصولي على الشهادة، فهو لم يشكّ في نجاحي هذه المرّة. كيف لي أن لا أنجح وأنا أسهر ليالي طويلة حالماً باللحظة التي سوف أتلقى فيها الشهادة، متخيّلا كيف سوف يلفظ رئيس الجامعة اسمي عبر الميكروفون وكيف سيقترب منه شخصي لابساً الثوب الأسود الطويل واضعاً قبّعة المتخرّجين على رأسه، صاعداً درجات المنصّة، مادّاً يده اليمنى مبتسماً للرئيس، ناظراً إلى يده اليسرى التي تحمل الدفتر الأبيض، الشهادة، التي سيعطيني إيّاها بعد ثوان معدودة، وكيف أنني سألتفت باحثاً عن أبي بين الجمهور وأراه واقفاً كالآخرين، أمي بجانبه لا تكاد تبكي كالأمهات الأخريات، وهو يرسم بسمة خفيفة فيها بعض من الفخر (الفخر بنفسه طبعاً)، مصفّقاً بيديه هازّاً رأسه مرّتين كما لو أنه يقول لي: لقد فعلتها يا بني، لقد فعلتها! 

بعد فترة أسّست مع صديقي مايك شركة لرجال الأعمال كان لي فيها مكتبي الخاص حيث وضعت منضدة ضخمة كتلك التي كانت في مكتب أبي. فهو كان يجلس خلفها باسترخاء وكأن العالم كلّه تحت قفاه، ولطالما أعجبتني. تزوجت، وولدت زوجتي توأماً من ابنتين، سمّيت الأولى جينا والثانية باربارا، تيمّناً بأمّي، وكان أبي فخوراً بي وبهما. 
زوجتي لورا امرأة رائعة: فهي ليست فقط تصيب في الإملاء دائماً كونها معلمة مدرسة، إنما أيضاً تصيب في حكمها على الأشياء. فهي الوحيدة التي كانت تؤمّن بطاقاتي الخارقة قائلة: "سوف تصبح يوماً رئيساً للبلاد وأعدك بأنني لن أكون مخطئة!".
يا إلهي كم أحب تلك المرأة! 

عندما أصبح أبي في السابعة والسبعين كنت أنا قد أصبحت في الخامسة والخمسين، وبدت توقّعات زوجتي كأنّها تحقّقت إذ أصبحتُ رئيساً لأعظم قارّة على كوكب الأرض فيما زوجتي ولدت ابناً وبنتاً آخرين فأسميت الصبي برني والفتاة إندِيا، وظلّ أبي فخوراً جداً بأولادي مردِّداً دائماً: "لا شكْ بأن لزوجتك جينات خارقة يا بني". كان الأربعة حَسني الوجوه، لطيفي الطباع خاصة إنديا وبرني الظريفين جداً اللذين بدا تصرّفهما أشبه بتصرّف قطّة وكلب شقيّين. أمّا ذكاء الأربعة فكان، في ما أظنّ، متوسّطاً.
بعد أقلّ من سنة على تسلّمي حكم بلادنا، وبينما كان أبي يلعب الغولف في حديقة منزله، راودتني فكرة أعجبتني كثيراً... كنت أنظر إليه كيف يُدخل الطابة في تلك الثغرة الصغيرة دون عناء، وكأن الثغرة هي التي تركض نحو الطابة لا العكس، وفكّرت بأنه لا بدّ أن يكون باستطاعتي، كوني أصبحت الآن رئيس البلاد، إدخال طابة أكبر من طابة الغولف، وفي ثغرة أصغر من تلك التي كان أبي يُدخل طابته فيها. 
هكذا قرّرت القيام بتجارب على تلك المهمّة آمراً كوندي، مستشارتي الخاصّة للأمور الصعبة، بأن تدرس إمكانيّة تحقيق ذلك الحلم الذي بات لا يبرح تفكيري. قالت كوندي إن ذلك غير مستحيل إذ يكفي أن نصنع طابة افتراضيّة أجعلها تتحوّل حسبما يروق لي، فتأخذ شكل مثلّث أو مربّع على سبيل المثال، ويتحوّل شكلها إلى شكل الهدف (الثغرة) نفسه في اللحظة التي تهبط فيها عليه. كوندي هذه خارقة الذكاء إلاّ أنّي لم أقتنع هذه المرّة بمقترحاتها كونها أرادتني أن ألعب تلك اللعبة وحدي على الكومبيوتر. أما أنا فكنت أريدها أن تكون المعجزة التي تخلّد اسمي في جمهوريّتنا الحبيبة. جاءت كوندي بعد أيّامٍ قليلة بنتيجة هائلة أرفقتها بمقترحٍ جديد: فهي استنتجت بعد البحث الطويل واستشارة أهمّ علماء البلاد من مهندسين نوويّين وكيميائيّين وفيزيائيّين، أن تلك الطابة موجودة فعلاً على كوكب آخر حيث تسيطر قوانين طبيعية مختلفة عن التي في بلادنا، إلاّ أن على سطح هذا الكوكب تسكن كائنات متوحشة لا بدّ من التخلّص منها أوّلاً، وإلاّ بات الحصول على طابة الغولف تلك مستحيلاً. نحن مجبرون إذاً على استعمال طائراتنا الحربيّة (لم يرق لي ذلك إذ أنا أحبّ طائراتنا كما أحبّ أولادي بالضبط، لكنّي وافقت عندما علمت أنه ما من حلّ آخر). وأردفت كوندي قائلة إننا بذلك سنضرب عصفورين بحجر واحد، إذ سوف يتسنّى لنا الحصول على مادّة باستطاعتنا استنساخها وبيعها لجميع لاعبي الغولف في العالم محقّقين بذلك أرباحاً طائلة، إضافة إلى اختراعنا أوّل ملعب للغولف في التاريخ يمكن فيه إدخال الطابة في ثغرة كائناً ما كان حجمها وفي أي مساحة شئت. آه، هذا سيجعل منّي بطلاً ليس فقط في بلادنا إنما أيضا في كواكب الأرض جميعاً!
أعجبتني تلك الفكرة أي والله، وهو يدري بمدى صدقي حين أقول هذا.

هكذا أقلعت طائراتنا الحبيبة إلى الكوكب إيّاه في ذلك اليوم من أيام الخريف الساحرة، حيث أشجار الحديقة لبست ألوان المغيب... ومع الطائرات طار قلبي، فكم كنت خائفاً من أن يصيبهاً مكروه إذ من يدري ماذا يخبّئ لنا الكوكب المجهول ذاك. إلاّ أن ثقتي بكوندي كانت أكبر من خوفي فخلدت للنوم في حضن زوجتي لورا الدافئ في تلك الليلة، وخبّأت وجهي تحت اللحاف لئلاّ تلاحظ حديثي الوهميّ مع كوندي، ورحت أحلم كيف ستعود كوندي وطائراتنا بسلام جالبة معها طابة الغولف الفريدة التي سوف أدخلها في ثغرة أبي، أقصد في إحدى ثغرات ملعب الغولف داخل حديقة بيت أبي، حالما أستطيع ذلك.

السفير، ١٨.١٢.٢٠٠٨
http://assafir.com/WeeklyArticle.aspx?EditionId=1126&WeeklyArticleId=51483&ChannelId=6689